من أين تأتي كتلة البروتون؟


إذا أردت تقسيم الجسيمات التي تكون جسمك إلى أجزاء أصغر فأصغر، ستجد في كل خطوةٍ من هذه العملية - على الأقل من ناحية الكتلة - أن الجسم بأكمله يساوي مجموع أجزائه. إذا فصلت جسمك إلى عظامٍ مفردةٍ و دهونٍ وأعضاء، سيكون مجموعهم جسماً بشرياً بالكامل، وإذا فصلتهم أكثر من ذلك مرةً أخرى، إلى خلايا، ستبقى الخلايا بمجموعها تشكل كتلتك نفسها.



 نموذج البنية الداخلية للبروتون و المجالات المرافقة.

يمكن تقسيم الخلايا إلى عضيات، والعضيات إلى جزيئات، والجزيئات إلى ذرات، والذرات بدورها إلى بروتونات ونترونات وإلكترونات. وعند ذلك المستوى، يوجد فرقٌ صغيرٌ إلا أنه ملاحَظ، حيث أن الإلكترونات والبروتونات والنترونات منفردةً تمتلك مجموع كتلةٍ يزيد بما مقداره 1% تقريباً عن كتلة الجسم البشري، والسبب في ذلك يعود إلى طاقة الارتباط النووية.


 تمتلك نواة ذرة الكربون كتلةً أقل بـ 0.8% تقريباً من كتلة البروتونات و النيوترونات التي تشكلها، و ذلك بفضل طاقة الترابط النووية

تتألف ذرة الكربون من 6 نيوترونات و 6 بروتونات، و هي أخف كتلةً بحوالي 0.8% تقريباً من الجسيمات الفردية التي تكونها. يتشكل الكربون بطرقة "الاندماج النووي" nuclear fusion للهيدروجين ليشكل الهيليوم، و من الهيليوم ينتج الكربون.

الطاقة المتحررة هي ما يزود معظم أنواع النجوم بالطاقة في كل من الطور الطبيعي و طور العملاق الأحمر، و إن تلك الكتلة المفقودة هي ما ينتج تلك الطاقة، بفضل معادلة أينشتاين E=mc2.

هذه هي الطريقة التي تعمل بها أغلب أنواع طاقات الارتباط، فسبب صعوبة تفكيك أشياء متعددة ترتبط مع بعضها، هو أنها تنشر الطلقة عندما تتحد و عليك أن تقدم طاقةً لفصلها من جديد. لهذا السبب، تبدو تلك حقيقة محيرة، فعندما تلقى نظرة على الجسميات التي تشكل البروتون – ثلاثة كواركات مختلفة لكل بروتون – فإن كتلتها مجتمعةً تساوي فقط 0.2% من كتلة البروتون ككل.


 جسيمات النموذج القياسي، مع الكتل بواحدة mev "ميغا إلكترون فولط" في أعلى اليمين. يتكون البروتون من كواركين علويين و كوارك سفلي، كتلته تقريبا 938 mev/c2

تختلف الطريقة التي تتحد بها الكواركات مشكلةً البروتونات جوهرياً عن كل القوى الأخرى و التفاعلات التي نعرفها، فبدلاً من أن تزداد شدة القوى عندما تصبح الأجسام أقرب – مثل القوى الثقالية، و القوى الكهربائية أو المغناطيسية – تنخفض القوى الجاذبة إلى الصفر عندما تصبح الأجسام أقرب – مثل القوى الثقالية، و القوى الكهربائية أو المغناطيسية – تنخفض القوى الجاذبة إلى الصفر عندما تصبح الكواركات قريبةً من بعضها بشكلٍ عشوائي، و بدلاً من أن تصبح القوة أضعف عندما تبتعد الأجسام عن بعضها، تصبح القوى التي تجذب الكواركات إلى بعضها أقوى عندما تبتعد عن بعضها.

تعرف هذه الخاصية من القوة النووية الشديدة بـ"حرية التقارب" asymptotic freedom، و تعرف الجسيمات التي تتوسط هذه القوى بـ"الغلونات" gluons. و بطريقةٍ أخرى، فإن القوى التي تربط البروتونات معاً، و التي تشكل كتلة 99.8% المتبقية من البروتون، تأتي من هذه الغلونات.
 


بدلاً من ثلاث كوﺍﺭﻛﺎت رئيسية (باللون الأخضر) ترتبط مع بعضها بواسطة الغلونات (التي تشبه النابض)، فإن بنية البروتون أكثر تعقيداً بكثير، مع "بحر" الكواركات و الغلونات الإضافية التي تسكن داخل البروتون

بسبب الطريقة التي تعمل بها القوة النووية الشديدة، هناك شكوك كبيرة في المكان الذي تتوضع فيه هذه الغلونات في أي نقطة من الزمن. لدينا نموذج متين في الوقت الحاضر لمتوسط كثافة الغلونات ضمن البروتون، لكن إذا أردنا معرفة أكبر احتمالية لمكان توضع الغلونات في الواقع، فهذا يتطلب المزيد من البيانات التجريبية، و كذلك نماذج أفضل لمقارنة البيانات.

ربما يكون التقدم الأخير للعلماء النظريين بيورن شينكة Björn Schenke و هايكي مينتساري Heikki Mäntysaari، قادراً على توفير تلك النماذج التي نحن بأشد الحاجة إليها، حيث فصّل مينتساري: "من المعروف بدقةٍ كم هو كبير متوسط كثافة الغلونات داخل البروتون، أما ما ليس معروفاً، فهو الموقع الذي تتوضع فيه الغلونات بالضبط داخل البروتون. نمذجنا الغلونات بحيث تقع حول الكواركات الثلاثة، ثم تحكمنا بكمية التقلبات المتمثلة في النموذج عن طريق تحديد ضخامة سحابات الغلونات، و تباعدها عن بعضها".

  
بدلاً من ثلاث كوﺍﺭﻛﺎت رئيسية (باللون الأخضر) ترتبط مع بعضها بواسطة الغلونات (التي تشبه النابض)، فإن بنية البروتون أكثر تعقيداً بكثير، مع "بحر" الكواركات و الغلونات الإضافية التي تسكن داخل البروتون

عندما تصدم جسيمين، كالبروتونات أو بروتون و أيون ثقيل أو أيونين ثقيلين، لا يمكنك نمذجتهم ببساطة كاصطدامات بروتون – بروتون، و بدلاً من هذا، تستطيع أن ترى 3 توزيعات لأنواع الاصطدامات: اصطدامات كوارك – كوارك، اصطدامات غلون – كوارك، اصطدامات غلون – غلون.

إن المكونات داخل هذه الجسيمات دون الذرية هي التي تتصادم بالفعل، بدلاً من التراكيب بأكملها (و هي هنا البروتونات)، بينما في الطاقات الأقل غالباً تتصادم الكواركات، و أعلى الطاقات التي وصل إليها RHIC مصادم الأيونات الثقيلة النسبي Relativistic Heavy Ion Collider في بروكهيفن و مصادم الهادرونات الكبير LHC في سيرن لديها احتمالية كبيرة لتفاعل غلون – غلون، مع إمكانية الكشف عن موقع الغلونات داخل البروتون، و واصل مينتساري: "لا تحدث العملية على الإطلاق إذا بدا البروتون كما هو دائماً، و كلما زادت تقلبات البروتون، أصبحت العملية أكثر عرضةً للحدوث".

 
فهم أفضل للبنية الداخلية للبروتون، متضمنةً كيفية توزع "بحر" الكواركات و الغلونات، المنجزة من التحسينات التجريبية و التطورات النظرية الجديدة في آن واحد.

بجمع هذا النموذج النظري الجديد و تحسين بيانات LHC باستمرار، سيصل العلماء إلى فهمٍ أفضل للبنى الداخلية و الأساسية للبروتونات و النيوترونات و النوى بشكلٍ عام، و بالتالي فهم من أين تأتي كتلة الأجسام المعروفة في الكون. إلا أن الهبة الأكبر لهذا النوع من البحوث، سيكون تطوير مصادم إلكترون – أيون EIC، المصادم المقترح من قبل العديد من التعاونات عبر العالم.

على عكس RHIC أو LHC التي تصادم البروتونات مع الأيونات – منتجاً إشارة نهائية مشوشة جداً – سيكون EIC أكثر تحكماً، بحيث لا توجد انفعالات داخلية و غير متحكم بها داخل الإلكترون لتحير النتائج التجريبية.


الرسم التخطيطي لأول مصادم أيون – إلكترون في العالم. بإضافة حلقة الإلكترون (حمراء) إلى مصادم الأيونات الثقيلة النسبي RHIC في بروكهيفن ينتج eRHIC

إذا أردت دراسة البنى الداخلية للبروتون أو مجموعة من الأنوية، فإن البعثرة العميقة غير المرنة هي الحل الوحيد للمضي قدماً. باعتبار أنّ المصادمات بدأت هذه الرحلة منذ أقل من قرن، و بما أننا الآن نحصل على طاقاتٍ أكبر بحوالي 10000 ضعف تقريباً من الذي بدأنا فيه، فإن السبر و الفهم الدقيق لكيفية حصول المادة على كتلتها ربما يصبح في متناول أيدينا في النهاية، و ربما تصبح عندها بلازما كوارك – غلون داخل النواة و التقلبات المصاحبة، جاهزةً في النهاية لتكشف أسرارها لنا.

و عندما يحصل ذلك، فإن واحداً من أقدم ألغاز الفيزياء، من أين تأتي كتلة المادة المعروفة (ما تزال لغزاً حتى بعد اكتشاف بوزون هيغز) ربما يصب في النهاية في صالح البشرية.

ليست هناك تعليقات