علماء يرصدون حالة جديدة للمادة كان يعتقد أنها مستحيلة الحدوث


يؤكد فيزيائيون أنهم تمكنوا للمرة الثانية من رصد حالة اللف الكمومي السائل، ولكن في هذه المرة، فقد حدث هذا لمادة كان يعتقد أنه من المستحيل حدوثه لها. إن تم تأكيد هذا الاكتشاف، فقد يغير طريقة فهمنا للحوسبة الكمومية.

في شهر أبريل الماضي، أصيب مجتمع الفيزياء بالذهول عندما أكد بعض العلماء أنهم تمكنوا، وللمرة الأولى، من رصد حالة جديدة للمادة وبشكل مباشر، وتسمى باللف الكمومي السائل. أما الآن، فقد أعلن فريق من الفيزيائيين أنهم رصدوا حالة اللف الكمومي السائل ثانية، ولكن في هذه المرة، في مادة يفترض أنه من المستحيل أن تأخذ هذه الحالة.

قد يغير هذا الاكتشاف من طريقة فهمنا لكيفية نقل الحوسبة الكمومية إلى أرض الواقع.


يقول الباحث الرئيسي كريستيان بالز، من معهد هيلمهولتز- زينتروم برلين للمواد والطاقة في ألمانيا: "لقد أثبتنا تجريبياً أن الحالات الكمومية المثيرة للاهتمام، مثل اللف الكمومي السائل، يمكن أن تحدث في بلورات عالية التعقيد، ذات مجموعات مختلفة من التفاعلات المغناطيسية."

تضيف بيلا ليك، أحد الباحثين الأساسيين: "قد يكون هذا الاكتشاف مهماً لتطور الحواسيب الكمومية في المستقبل، إن سوائل اللف هي أحد الاحتمالات الممكنة للوحدة الأساسية التي تحمل أصغر واحدة من المعلومات الكمومية، والتي تعرف بالبت الكمومي (كيوبت)."
لنتمهل قليلاً، لأن كل هذا ليس محيراً كما يبدو.

ما هو اللف الكمومي؟

في العالم الكمومي، ليس المقصود باللف أن الإلكترون يدور حول نفسه مادياً، بل إنه يشير إلى نوع من الاندفاع الزاوي الذاتي الذي يوصف ببساطة سلوك الإلكترون. في الحوسبة الكمومية يُبسّط هذا المفهوم في أغلب الأحيان بالقول، إن حالة اللف هي سفلية، علوية، أو متراكبة (الحالتان معاً).

حالة السائل ذي اللف الكمومي هي حالة للمادة تحصل، وببساطة، عندما يتذبذب لف الإلكترونات، باستمرار وبشكل سلس، عند درجات الحرارة شديدة الانخفاض، عندما ينبغي لها أن تتجمد في مكانها.

يمكن أن نشبّه هذا الوضع بالذرات ضمن المواد التقليدية. عندما تكون هذه المواد في الحالة السائلة، فإن هذه الذرات تتحرك بحرية. ولكن عندما تنخفض درجات الحرارة، ستتجمد في مكانها ضمن تشكيل صلب. وفي المواد المغناطيسية، يجب أن يحدث نفس الشيء بالنسبة لاتجاه اللف، ولكن في حالة اللف الكمومي السائل، هذا لا يحدث، أي أن المقصود بالسيولة هنا هو التغير المستمر لاتجاهات اللف للإلكترونات.

على الرغم من أن وجودها تم التنبؤ به في 1973، إلا أن هذه الحالة الجديدة للمادة لم ترصد للمرة الأولى حتى هذه السنة، وذلك في مادة ثنائية البعد، وشبيهة بالجرافين.

بدا الاكتشاف منطقياً جداً، لأن المادة متوافقة مع فهمنا لطريقة ظهور اللف الكمومي السائل.

وبشكل أساسي، فإن المعيار المطلوب هو أن تكون المادة ذات تفاعلات مغناطيسية لا حديدية، أو لا متوازية، وهي، كما يبدو من الاسم، عكس التفاعلات المغناطيسية الحديدية، في مواد مثل الحديد والنيكل.

هذا يعني أنه إن كان للإلكترون لف سفلي، فإن الإلكترون المجاور يجب أن يكون لفه علوياً، وهكذا دواليك.

لا تأخذ المواد اللا حديدية حالة اللف السائل ذاتياً بالضرورة، إلا إذا كانت تتمتع بترتيب ذري مثلث، ما يجعل تراصف اللف مستحيلاً.

لنتخيل ثلاثة إلكترونات على زوايا مثلث. من المستحيل أن تكون جميعها في حالة تراصف متوازٍ، لأنه ما أن يغير أحدها اتجاه اللف ليتوافق مع الذي على يمينه، فإن الذي على اليسار يجب أن يتغير، وهكذا دواليك. ستستمر هذه الإلكترونات في تغيير اتجاه اللف حتى في درجة الصفر المطلق، ومن هنا أتت تسمية حالة اللف السائل.

ولكن البحث الجديد يقترح أن هذا المعيار ليس صحيحاً تماماً، حيث أن الفريق الألماني رصد حدوث الحالة الجديدة في مادة لا تتوافق مع التوصيف الموجود.

اللف المستحيل؟

المادة المعنية هي بلورة أحادية من أوكسيد كروم الكالسيوم (Ca10Cr7O28). تتكون هذه المادة مما يعرف باسم شبكة كاجومي، نسبة للحبكة ذات الأشكال المثلثة والمسدسة في السلال اليابانية.

هذا يعني، بشكل عام، أن المادة فيها مزيج معقد من التفاعلات اللا حديدية، والتفاعلات الحديدية الأقوى منها، والتي يفترض بها، وفقاً للمفهوم الحالي، أن تمنع السلوك السائل للّف الكمومي.

ولكن، وبعد إجراء مجموعة من تجارب التبعثر وقياس الطيف في ألمانيا، فرنسا، إنجلترا، سويسرا، والولايات المتحدة، تمكن الفريق من أن يبرهن أن هذا لم يكن صحيحاً، فقد ظهرت حالة اللف الكمومي السائل حتى في درجات حرارة منخفضة وصلت إلى 20 ميلي كلفن، أي ما يقارب 273 درجة مئوية تحت الصفر.

إذاً ما الذي يحصل؟ لحسن الحظ، فقد توصل الفريق إلى فرضية تفسر إمكانية تصرف هذه المادة وكأنها في حالة اللف الكمومي السائل، وذلك مع الحفاظ على الفهم السابق لحالة المادة.

باستخدام عمليات محاكاة عددية، أظهر الفريق أن التنافس هو المفتاح لتفسير هذا السلوك الغريب، أي أن التفاعلات المغناطيسية المختلفة في المادة تتنافس فيما بينها، ما يبقي اللف عند الإلكترونات في حالة تقلب مستمر.

يمكنك أن ترى كيفية حدوث ذلك في الشكل التوضيحي أدناه، والذي يظهر التفاعلات المتنافسة فيما بينها على كل ذرة (الكرات الرمادية والسوداء). تمثل الخطوط الخضراء والحمراء التفاعلات الحديدية، في حين تمثل الخطوط الزرقاء التفاعلات اللا حديدية، والتي تجبر اتجاهات اللف على التغير المستمر.


التفاعلات المتنافسة لكل ذرة (الكرات الرمادية والسوداء). بحيث تمثل الروابط الخضراء والحمراء التفاعلات المغناطيسية الحديدية، بينما تمثل الروابط الزرقاء التفاعلات المغناطيسية الحديدية المضادة، التي تجبر الغزل على التغير.

تقول ليك: "لقد أدى عملنا هذا إلى توسيع فهمنا للمواد المغناطيسية، وأظهر لنا أن هناك أكثر مما توقعنا من المواد التي يمكن أن تكون سوائل لف."

نُشر البحث في نيتشر فيزيكس Nature Physics، والآن يجب المصادقة عليه من قبل فرق أخرى، قبل أن نجزم بوجود حالة اللف الكمومي السائل في هذه الأنواع الجديدة من المواد.

على أي حال، تعتبر هذه الدراسة مشوقة جداً، ويمكن أن توسّع، وبشكل كبير، مجموعة المواد التي قد نستخدمهاً مستقبلاً لبناء الحواسيب الكمومية. نحن متلهفون لمعرفة المزيد.

اكتشاف ذو فائدة كبيرة

يمكن لهذا الاكتشاف أن يُغير من فهمنا لكيفية جعل الحوسبة الكمية (quantum computing) تعمل. كما يقول كريستيان بالز Christian Balz، الباحث في معهد هولمهولتز للمواد والطاقة (HZB) في ألمانيا: "لقد أثبتنا تجريبياً أن الحالات الكمية المثيرة للاهتمام مثل السوائل المغزلية يمكن أن تحدث أيضاً إلى حدٍ كبير في البلورات المعقدة مع تشكيلاتٍ مختلفة من التفاعلات المغناطيسة".

وتُضيف بيلا لايك Bella Lake، إحدى الباحثين الرئيسيين: "قد يكون هذا مهماً في تطوير الحواسيب الكمية في المستقبل لأن السوائل المغزلية هي إحدى لبنات البناء المحتملة لحمل أصغر وحدات المعلومات الكمومية، المعروفة باسم البت الكمومي "كيوبت" qubit".

دعونا نراجع هذا الأمر لثانية، لأن كل هذا ليس مربكاً كما يبدو. لا يعني الغزل أو اللف الذاتي (السبين) Spin في العالم الكمومي أن الإلكترون يدور فيزيائياً. حيث يشير ذلك إلى نوعٍ من الزخم الزاوي (angular momentum) الفعلي والذي يصف ببساطة كيفية تصرف الإلكترون. عادةً ما نُبسط ذلك في الحوسبة الكمومية بالقول أنّ الحالة المغزلية هي أعلى up، أو أسفل down، أو في حالة تراكب (superposition) -أي الاثنان في الوقت نفسه.

السائل المغزلي الكمي هو حالة من المادة تحدث ببساطة عندما يستمر غزل الإلكترون بالتذبذب على طريق السوائل، حتى في درجات الحرارة المنخفضة، حيث ينبغي لها أن تتجمد في مكانها. ويُشبه هذا الذرات في المواد العادية. فعندما تكون في الحالة السائلة، تتحرك بحريّة. لكن عندما تنخفض درجات الحرارة، تتجمد في مكانها في نظامٍ صلب، لكن في حالة السوائل المغزلية الكمومية، لا يحدث ذلك.

وعلى الرغم من أنه تم التنبؤ بهذه الحالة عام 1973، فقد تم رصدها لأول مرة في هذا العام في مادة ثنائية الأبعاد تشبه الغرافين. وكان ذلك الاكتشاف منطقياً لأن المادة تتناسب مع مفاهيمنا لكيفية نشوء الحالة السائلة المغزلية.

وبشكلٍ أساسي، فإن المعايير تتطلب أن تمتلك هذه المادة تفاعلاتٍ مغناطيسية حديدية مضادة (antiferromagnetic) –أو عكسية التوازي (antiparallel)– والتي كما يوحي اسمها، هي مُعاكسة للتفاعلات المغناطيسية في موادٍ كالحديد أو النيكل. ويعني ذلك أنه إذا كان أحد الإلكترونات يمتلك غزلاً سفلياً، فيجب أن يمتلك الإلكترون المجاور غزلاً علوياً، وهكذا.

لا تدخل المواد المغناطيسية المضادة بالضرورة في الحالة السائلة المغزلية الكمومية ما لم تمتلك أيضاً ترتيب ذري مثلثي الشكل، مما يجعل التوافق مستحيلاً. ولذا تخيل فقط ثلاث ذرات موزعةً على زوايا مثلث: لن تستطيع هذه الذرات أن تُصبح في اصطفافٍ متوازٍ لأنه حالما تتغير إحداها لتوافق الأخرى على يمينها، ستضطر التي على يسارها إلى التغير، وهكذا. وستستمر في تقليب ترتيبهم حتى في درجة حرارة الصفر المطلق وبذلك نصل إلى حالة السائل المغزلي الكمومي.

لكن يقترح البحث الجديد أن معاييرنا ليست صحيحة تماماً، لأن الفريق الألماني تمكن من رصد الحالة الجديدة في مادةٍ لا تتوافق مع ذلك الوصف. والمادة التي نتحدث عنها هي أكسيد الكروم -الكالسيوم ذات البلورة الأحادية (monocrystal of calcium chromium oxide (Ca10Cr7O28.

يتكون أكسيد الكروم-الكالسيوم مما يعرف باسم شبكات كاغومي (Kagomé lattices)، وقد حصلت على اسمها هذا من نمط المثلثات والأشكال السداسية المنسوجة في السلال اليابانية. وبشكلٍ أساسي، فذلك يعني أن المادة تمتلك مزيج معقد من التفاعلات المغناطيسية الحديدية المضادة، ولكن بالإضافة إلى تفاعلات مغناطيسية حديدية قوية، والتي يجب وفقاً للمفهوم التقليدي، أن تمنع سلوك السوائل المغزلية الكمومية.

لكن من خلال تجارب التشتت والتحليل التي جرت في ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، وسويسرا، والولايات المتحدة، تبيّن للفريق عكس ذلك، حيث ظهرت الحالة السائلة المغزلية الكمومية حتى تحت درجة حرارة تصل إلى 20 ملي كلفن (حوالي 273- درجة مئوية). فما الذي يحدث هنا؟ لحسن الحظ، فقد اقترح الفريق بالفعل فرضياتٍ لتفسير سبب تصرف هذه المادة مثل السوائل المغزلية الكمومية دون أن تخرِق فهمنا التقليدي لحالة المادة.

وباستخدام محاكاة عددية، أظهر الفريق أن المنافسة هي مفتاح ذلك السلوك الغريب، حيث تتنافس التفاعلات المغناطيسية المختلفة مع بعضها البعض في المواد، محافظين بذلك على تقلب الغزل. ويمكنك رؤية ذلك يحدث في الرسم التوضيحي السابق، والذي يظهر التفاعلات المتنافسة لكل ذرة (الكرات الرمادية والسوداء). بحيث تمثل الروابط الخضراء والحمراء التفاعلات المغناطيسية الحديدية، بينما تمثل الروابط الزرقاء التفاعلات المغناطيسية الحديدية المضادة، التي تجبر الغزل على التغير.

يقول ليك: "يوسع هذا العمل من فهمنا للمواد المغناطيسية، كما يظهر لنا احتمالية وجود مرشحين للسوائل المغزلية أكثر مما توقعنا". نُشر البحث في مجلة Nature Physics, وهو بحاجة الآن إلى أن يتم التحقق منه من قبل الفرق الأخرى قبل أن يتسنّ لنا تأكيد إمكانية وجود الحالة السائلة المغزلية الكمومية في تلك الأنواع من المواد. لكنها دراسةٌ مثيرةٌ جداً، حيث تُوسع بشكلٍ كبير حوض المواد المُحتملة التي نستطيع استعمالها في المستقبل لبناء الحواسيب الكمومية، ونحن متشوقون لرؤية المزيد.

ليست هناك تعليقات