عن الصحابي الجليل "سعد بن أبي وقاص"


بداية: من هو "سعد بن أبي وقاص"؟

"سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي" صحابي من أوائل من دخلوا في الإسلام وكان في السابعة عشر من عمره، ولم يسبقه في الإسلام إلا "أبو بكر" و "علي" و "زيد" وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة.

أما اسمه بالكامل فهو: "سعد بن أبي وقاص مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان".

نسب "سعد بن أبي وقاص"؟

هو من قبيلة "بني زهرة" وهم فخذ "آمنة بنت وهب" أم "الرسول"، وقد كان "رسول الله – صلى الله عليه و سلم –" يعتز بهذه الخؤولة فقد ورد أن "النبي – صلى الله عليه و سلم –" كان جالساً مع نفر من أصحابه فرأى سعد بن أبي وقاص مقبلاً فقال لمن معه: "هذا خالي فليرني أمرؤ خاله".

أي أن "سعد بن أبي وقاص" يعتبر خال "رسول الله – صلى الله عليه و سلم –".

مكان الميلاد:

ولد في مكة سنة 23 قبل الهجرة (أي سنة 595 م)، و نشأ في قريش، واشتغل في بري السهام وصناعة القسي، وهذا عمل يؤهل صاحبه للائتلاف مع الرمي، وحياة الصيد والغزو، وكان يمضي وقته وهو يخالط شباب قريش وساداتهم ويتعرف على الدنيا من خلال معرفة الحجاج الوافدين إلى مكة المكرمة في أيام الحج ومواسمها، المتباينة الأهداف والمتنوعة الغايات.

قصة إسلامه:

دخل الإسلام وهو ابن 17 سنة، وكان إسلامه مبكرا، ويتحدث عن نفسه فيقول: 

«".. ولقد أتى عليّ يوم، واني لثلث الإسلام"..!!».

يعني أنه كان ثالث ثلاثة سارعوا إلى الإسلام، وقد أعلن إسلامه مع الذين أعلنوه بإقناع "أبي بكر الصديق" إياهم، وهم "عثمان بن عفان"، و "الزبير بن العوّام"، و "عبد الرحمن بن عوف"، و "طلحة بن عبيد الله". 

اسلم عبر حلم حين كان في يوٍم رأى رؤية وجد فيها إنه يمشى في مكان مظلم وكلما مشى أكثر اشتد علية الظلام ثم وجد قمرا منيرا بشدة فذهب هناك وجد ان "أبو بكر الصديق" و "على بن أبي طالب" و "عبد الرحمن بن عوف" يقفون اسفله فعلم ان القمر هو "الرسول "محمد" – صلى الله عليه و سلم –" فعندها استيقظ واعلن إسلامه.

أما قصته مع أمه حين أعلن إسلامه فكانت مثالا يحتذى به لكل ابن صبر و بر بوالديه حتى و إن كانا يسيئان إليه و مثالا لطاعة أمر الله فيما يرضي الله.

و قد حاول العديد من المشركين رد "سعد" عن إسلامه و صده، و كانت أمه قد لجأت إلى وسيلة لصده و لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه إلى وثنية أهله وذويه، فتلك كانت ثورة "أم سعد" و قد أعلنت صومها عن الطعام والشراب، حتى يعود "سعد" إلى دين آبائه وقومه، ومضت في تصميم مستميت تواصل إضرابها عن الطعام والشراب.

يقول "سعد": 

«و ما سمعت أمي بخبر إسلامي حتى ثارت ثائرتها، وكنت فتى باراً بها مُحباً لها، فأقبلت عليّ تقول: "يا "سعد"، ما هذا الدين الذي اعتنقته فصرفك عن دين أمك وأبيك؟ والله لتدعن دينك الجديد أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فيتفطر فؤادك حزناً عليّ ويأكلك الندم على فعلتك التي فعلت وتعيرك الناس أبد الدهر". 

فقلت: "لا تفعلي يا أماه فأنا لا أدع ديني لأي شيء"». 

إلا أن أمّه اجتنبت الطعام ومكثت أياماً على ذلك فهزل جسمها وخارت قواها، فلما رآها "سعد" قال لها: 

«يا أُماه إني على شديد حبي لك لأشد حباً لله ولرسوله و والله لو كان لك ألف نفس فخرجت منك نفساً بعد نفس ما تركت ديني هذا بشيء».

و في رواية أخرى قال: «تعلمين والله يا أمّاه.. لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا لشيء، فكلي إن شئت أو لا تأكلي».

فلما رأت الجد أذعنت للأمر وأكلت وشربت على كره منها ونزل قوله تعالى: 

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) صدق الله العظيم، سورة العنكبوت، الآية 8.

دوره و مكانته:

1- كانت مكانة "سعد بن أبي وقاص" عند "رسول الله – صلى الله عليه و سلم –" عالية و هذه بعض الروايات:

* عَنْ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ، عَنْ سَعْدٍ، قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! مَنْ أَنَا؟ قَالَ: (سَعْدُ بنُ مَالِكِ بنِ وُهَيْبِ بنِ عَبْدِ مَنَافِ بنِ زُهْرَةَ، مَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعنَةُ اللهِ).

* عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَرِقَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: (لَيْتَ رَجُلاً صَالِحاً مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ)؛ قَالَتْ: فَسَمِعْنَا صَوْتَ السِّلاَحِ. فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ: (مَنْ هَذَا؟)؛ قَالَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنَا يَا رَسُوْلَ اللهِ! جِئْتُ أَحْرُسُكَ. فَنَامَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيْطَهُ.

* قال سعد: أَنَّ أُمَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زُهْرِيَّةٌ، وَهِيَ: آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ، ابْنَةُ عَمِّ أَبِي وَقَّاصٍ؛ قَالَ سَعْدٌ بن أبي وقاص: اشْتَكَيْتُ بِمَكَّةَ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُوْدُنِي، فَمَسَحَ وَجْهِي وَصَدْرِي وَبَطْنِي، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْداً)؛ فَمَا زِلْتُ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي أَجِدُ بَرْدَ يَدِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى كَبِدِي حَتَّى السَّاعَةَ.

2- أول من رمى بسهم في سبيل الله، و أول من رمي أيضا، و إنه الوحيد الذي افتداه "رسول الله – صلى الله عليه و سلم –" بأبويه فقال له يوم أحد: «" ارم "سعد" فداك أبي وأمي"..»، و يقول "علي ابن أبي طالب": «"ما سمعت "رسول الله – صلى الله عليه و سلم -" يفدي أحدا بأبويه الا "سعدًا"، فاني سمعته يوم أحد يقول: ارم "سعد".. فداك أبي وأمي"».

3- كان "سعد" يعدّ من أشجع فرسان العرب والمسلمين، وكان له سلاحان رمحه ودعاؤه، وكان مجاهداً في معركة بدر وفي معركة أحد.

4- كان مجاب الدعاء، فالمعروف كان "سعد بن أبي وقاص" إذا رمى عدوا أصابه وإذا دعا الله دعاء أجابه، وكان الصحابة يردون ذلك لدعوة "الرسول" له "اللهم سدد رميته، وأجب دعوته".

ويروى أنه رأى رجلا يسب "طلحة" و "علي" و "الزبير"، فنهاه فلم ينته، فقال له: "إذن أدعو عليك"، فقال الرجل: "أراك تهددني كأنك نبي!"، فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين ثم رفع يديه قائلا: "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما سبقت لهم منك الحسنى، وأنه قد أسخطك سبه إياهم، فاجعله آية وعبرة"، فلم يمض غير وقت قصير حتى خرجت من إحدى الدور ناقة نادّة لا يردها شيء، حتى دخلت في زحام الناس ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها، وما زالت تتخبطه حتى مات.

5- و كما ذكرنا بأنه أحد المبشرين في الجنة فإن لذلك قصة، إذ كان "الرسول الله – صلى الله عليه و سلم –" يجلس بين نفر من أصحابه، فرنا ببصره إلى الأفق في إصغاء من يتلقى همسا وسرا، ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة"، وأخذ الصحابة يتلفتون ليروا هذا السعيد، فإذا "سعد بن أبي وقاص" آت وقد سأله "عبد الله بن عمرو بن العاص" أن يدله على ما يتقرب به إلى الله من عبادة وعمل فقال له: "لا شيء أكثر مما نعمل جميعًا ونعبد، غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغنا ولا سوء".

6- قاد المسلمين في معركة "القادسية" الشهيرة، أما قصتها:

إذ خرج "سعد" في ثلاثين ألف مقاتل ولقاء الفرس المجتمعين في أكثر من مائة ألف من المقاتلين المدربين المدججين بأنواع متطورة من عتاد وسلاح ويتولى قيادة الفرس "رستم"، وقبل المعركة كانت الرسائل بين "سعد" و "عمر بن الخطاب" ومنها:

«" يا "سعد بن وهيب"..

لا يغرّنّك من الله، أن قيل: خال "رسول الله" وصاحبه، فان الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته.. والناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء.. الله ربهم، وهم عباده.. يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت "رسول الله" منذ بعث إلى أن فارقنا عليه، فألزمه، فانه الأمر". 

ثم يقول له: "اكتب اليّ بجميع أحوالكم.. وكيف تنزلون..؟ وأين يكون عدوّكم منكم.. واجعلني بكتبك إلي كأني أنظر إليكم"..!!»

ويكتب "سعد" فيصف له كل شيء حتى انه ليكاد يحدد له موقف كل جندي ومكانه. وقد أوصى عمر سعد بدعوتهم إلى الإسلام، وينفذ "سعد" وصية "عمر بن الخطاب"، فيرسل إلى "رستم" قائد الفرس نفرا من صحابه يدعونه إلى الله والى الإسلام.

7- قام بفتح المدائن ("قطيسفون" سابقا)، و قد كان ذلك بعد موقعة القادسية بأكثر من 5 شهور، جرت خلالهما مناوشات مستمرة بين والمسلمين و الفرس، وقد استطاع سعد هزيمة الفرس بقيادة الجيش لعبور نهر دجلة وجهز كتيبتين، الأولى: واسمها كتيبة الأهوال والثانية: اسمها الكتيبة الخرساء وقد نجحا في العبور وهزيمة الفرس.

8- عيّن واليًا في إمارة العراق، و قد عينه "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه، فراح "سعد" يبني ويعمر في الكوفة، وذات يوم اشتكاه أهل الكوفة لأمير المؤمنين فقالوا (إن "سعدًا" لا يحسن يصلي ويضحك)، "سعدًا" قائلا (والله إني لأصلي بهم صلاة "رسول الله"، أطيل في الركعتين الأوليين وأقصر في الآخرين) واستدعاه "عمر" إلى المدينة فلبى مسرعًا، وحين أراد أن يعيده إلى الكوفة ضحك "سعدًا" قائلا (أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة ؟!) ويؤثر البقاء في المدينة.

9- واحد من الستة أصحاب الشورى، عندما حضرت "عمر" الوفاة بعد أن طعنه "أبو لؤلؤة المجوسي"، جعل الأمر من بعده إلى الستة الذين مات "النبي صلى الله عليه و سلم –" وهو عنهم راضٍ وأحدهم "سعد بن أبي وقاص"، وقال "عمر": "إن وليها "سعد" فذاك، وإن وليها غيره فليستعن بـ"سعد"".

10- اعتزاله للفتنة:

حين حدثت الفتنة بين "علي بن أبي طالب" و "معاوية بن أبي سفيان" و عرفت بالفتنة الكبرى، كان "سعد" قد اعتزلها وأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا إليه شيئا من أخبارها، وقد ذهب إليه ابن أخيه "هاشم بن عتبة بن أبي وقاص"، ويقول له: "يا عم، ها هنا مائة ألف سيف يروك أحق الناس بهذا الأمر". 

فيجيبه "سعد": "أريد من مائة ألف سيف، سيفا واحدا، إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا، وإذا ضربت به الكافر قطع"، فيتركه وعزلته. 

وحين انتهى الأمر لـ "معاوية" بعد الاتفاق الشائك الذي تم بعد "معركة صفين" واستقرت بيده مقاليد الحكم سأل "سعدًا": "مالك لم تقاتل معنا؟"، فأجابه: "إني مررت بريح مظلمة، فقلت: أخ.. أخ..، و اتخذت من راحلتي حتى انجلت عني..".

فقال "معاوية": "ليس في كتاب الله أخ.. أخ.. ولكن قال الله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) )، وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية"، أجابه "سعد" قائلا: "ما كنت لأقاتل رجلا قال له "رسول الله": أنت مني بمنزلة "هارون من موسى" إلا أنه لا نبي بعدي".

11- كان مبعوثًا في الإسلام إلى الصين بين عامي 616 م – 651 م، و كانت الصين تحت حكم الامبراطور وقتها "تشاو زونغ" من سلاسة "تانغ" الملكية.

12- وصوله لمدينة "قطيسفون" ("المدائن")، حين وصل "سعد" إلى "قطيسفون"، كانت قد تدمرت بسب الحرب و جيش الفرس كان قد ضم جنود الأسرة الساسانية الملكية و نبلاء الفرس، و أسر جنود المسلمين بعض جنود الفرس و غنائم من الأسرة الحاكمة، و في تلك المدينة كان يقع "طاق كسرى" أو ما يعرف باسم "إيوان كسرى" الشهير و يسمى الآن بـ "إيوان المدائن" و هو الأثر الباقي من قصر "كسرى" و هو الأثر الذي يمثل أكبر قاعة لإيوان كسرى مسقوفة بالأجر على شكل عقد دون استخدام دعامات أو تسليح ما، منذ وصول جيش "سعد" كان الطاق قد تحول إلى مسجد، فصلى "سعد" صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينها وكان في الايوان تماثيل وصور فتركها على حالها وتحول من الايوان بعد ثلاثة أيام إلى "القصر الأبيض" و ولي فيها لعام واحد (637 م – 638 م).

13- فتحه "للبصرة"، كانت "البصرة" امارة تابعة للدولة الساسانية وكانت تسمى امارة "ميشان" وتضم "بلدة ميشان" و "بلدة الأبلة" وبعض الحصون، وكانت من أهم الثغور وعليها القائد الفارسي "هرمز"، و كان المسلمون قد توجهوا إليها بقيادة "قطبة بن قتادة" في زمن الخليفة "أبو بكر" وفي زمن الخليفة "عمر بن الخطاب"، هاجمها "عتبة بن غزوان المازني" بعد أن ارسله "سعد بن ابي وقاص" لإتمام الفتح الإسلامي بعد معركة القادسية فدخلها وغنم المغانم العظيمة في سنة 14 هجرية.

الحوار مع "رستم":

بعث "سعد" جماعة من السادات منهم: 

"النعمان بن مقرن"، و "فرات بن حبان"، و "حنظلة بن الربيع"، و "عطارد بن حاجب"، و "الأشعث بن قيس"، و "المغيرة بن شعبة"، و "عمرو بن معد يكرب".

فدخلوا عليه، وقد زّينوا مجلسه بالنَّمارق المُذْهَبة والزرابيّ الحريرَيّة وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة، والزينة العظيمة، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه. 

فقالوا له: "ضع سلاحك". 

فقال: "إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت". 

فقال "رستم": "ائذنوا له". 

فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: "ما جاء بكم؟"، فقال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لتدعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله". قالوا: "وما موعود الله؟"، قال: "الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي". 

فقال "رستم": "قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟". 

قال: "نعم !كم أحب إليكم؟ يوماً أو يومين؟". 

قال: "لا بل حتى نكاتب أهل رأينا رؤساء قومنا". 

فقال: "ما سن لنا "رسول الله" أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل". 

فقال: "أسيدهم أنت؟"، قال: "لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم". 

فاجتمع "رستم" برؤساء قومه فقال: "هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟"، فقالوا: "معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا، تدع دينك إلى هذا الكلب أما ترى إلى ثيابه؟"، فقال: "ويلكم لا تنظرون إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي، والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب".

وبعث "سعد" أكثر من رسول لحوار "رستم"، وكان المرض قد اشتد على "سعد" وملأت الدمامل جسده حتى ما كان يستطيع أن يجلس، فضلا أن يعلو صهوة جواده ويخوض عليه معركة، عندئذ وقف في جيشه خطيبا، مستهلا خطابه بالآية الكريمة: 

(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) ). 

وبعد فراغه من خطبته، صلى بالجيش صلاة الظهر، ثم استقبل جنوده مكبّرا أربعا: "الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.."، وأستطاع جيش "سعد" هزيمة الفرس وقائدها "رستم" و وصل الجيش إلى المدائن.

وفاة "سعد بن أبي وقاص":

عُمر "سعد بن أبي وقاص" كثيرًا و أفاء الله عليه من المال الخير الكثير لكنه حين أدركته الوفاة دعا بجبة من صوف بالية وقال" "كفنوني بها فإني لقيت بها المشركين يوم بدر وإني أريد أن ألقى بها الله عز وجل أيضا".

وكان رأسه بحجر ابنه الباكي فقال له: "ما يبكيك يا بني؟، إن الله لا يعذبني أبدا، وإني من أهل الجنة"، فقد كان إيمانه بصدق بشارة "رسول الله – صلى الله عليه وسلم –" كبيرًا. 

كانت وفاته في سنة (55 هـ - 674 م) عن عمر يناهز 80 سنة تقريبًا، وهو آخر من مات من العشرة المبشرين بالجنة، ودفن في البقيع.

أما ذريته فكانت:

1. "عمر بن سعد": أحد قادة جند "عبيد الله بن زياد" والي العراق، توفي سنة 66 هـ.

2. "عائشة بنت سعد": و هي تابعية و من رواة الأحاديث، وكانت شديدة الفخر بأبيها إذ كانت تقول: (أنا ابنة المهاجر الذي فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالأبوين)، و توفيت عام 117 هـ.

ملاحظات:

1. "قطيسفون" تسمى أيضا "قطسيفون" بالانجليزية (Ctesiphon).

2. مدينة "المدائن" بنيت أيضا على أنقاض مدينة "سلوقية" مع "قطيسفون".

3. سبب تسمية "المدائن" بهذا الاسم (لأنها كانت سبع مدائن)، واسمها عند الفرنج (اكتيزيفون).

4. البصرة و الكوفة كانتا تسميان بالعراقين أو المصرين أو البصرتين وذلك لأنهما أول مدينتين بنيتا في الإسلام بعد الفتح.

5. البصرة هي أول ولاية في العصر الإسلامي خارج حدود الجزيرة، وقد أصدر "عمر بن الخطاب" أوامره لإعلانها "ولاية" وعين عليها واليا وهو "عتبة بن غزوان".

ليست هناك تعليقات