قصة نجاح: حصلت على معدل 92.8% ... أسيل الحاج أحمد.. فقدت البصر ولم تفقد البصيرة!


.: العلاقات العامة - شمال غزة :.

إِن يَأخُذِ اللَهُ مِن عَينَيَّ نورَهُما.. فَفي لِساني وَقَلبي مِنهُما نورُ..

 قَلبٌ ذَكِيٌّ وَعَقلٌ غَرُ ذي دَخَلٍ.. وَفي فَمي صارِمٌ كَالسَيفِ مَأثورُ!

وكأني بحسّان ابن ثابت –رضي الله عنه- قد بُعث من جديد؛ ليردد على مسامعنا تلك الأبيات، في حضرة الطالبة المجتهدة والمثابرة الاستثنائية أسيل الحاج أحمد، التي فقدت بصرها، ولكنها لم تفقد البصيرة، فكان لها ما تريد، تفوقا ونجاحا تُباهي وتُفاخر به على رؤوس الأشهاد!

الساعة الثامنة من صباح يوم السبت الموافق 11/7/2020، موعد إعلان نتائج الثانوية العامة للعام الدراسي 2019-2020، الكل في حالة انتظار وترقب، "أسيل".. تجمّد الدم في عروقها، وانحبست أنفاسها، وتسارعت دقات قلبها، والصمت الحذر سيد الموقف في بيتها المتواضع الذي يحكي معاناة شعب يرزح تحت نير الاحتلال..

فجأة قطع أخوها الصمت، مبشّراً بنتيجة طال انتظارها، معلناً بأعلى صوته: "طلعت النتيجة (92.8%).. رقمٌ يُكتب بمداد من نور، بعد أن اُنتزع من بين أنياب المعاناة، واُشتقّ من بين ثنايا الصخر؛ ليتوّج رحلة ممتدة وطويلة من التحدي والعزيمة والإرادة خاضتها الطالبة الكفيفة "أسيل" منذ نعومة أظفارها –ولا زالت- لتحفر اسمها في سجل المتفوقين.

حينها.. تحوّل البيت الذي كان مسكوناً برعب الانتظار، إلى كتلة من الحيوية والبهجة والسرور، بعد أن علت الزغاريد، معلنة دخول الفرح في كل زاوية من زواياه...

"شعورٌ لا يوصف، وكأني أحلّق في السماء، فرحاً وطرباً بما صنعت بتوفيق الله ومنّته، كم أتمنى أن أعيش تلك اللحظات التي اخترقت فيها النتيجة مسامعي مرّات ومرّات، فالفرح بالنجاح والتفوق لا تعادله أية فرحة".. هكذا وصفت المتفوقة "أسيل" شعورها لحظة سماعها نبأ نجاحها وتفوقها... رغم أنها كانت تتوقع الحصول على معدّل (94%) كما قالت.

"أسيل" التي تنتمي لأسرة مكوّنة من ثمانية أفراد، وتعيش في ظروف معيشية صعبة داخل بيت متواضع من بيوت مخيم جباليا للاجئين، الذي لا زال شاهدا على مرارة التهجير والحرمان.. استطاعت بالرغم من ظروفها الصحية الصعبة التي رافقتها منذ كانت طفلة في عامها الثاني بالحرمان من نعمة البصر، والظروف المعيشية المعقدة في ظلال بيت مسقوف بألواح من الأسبست، أن تصنع لنفسها مكاناً تحت الشمس، حيث كان والداها يجتهدان في توفير الأجواء المناسبة لدراستها ويتركان غرفتهما الخاصة لها حتى تتمكن من التركيز في الدراسة بعيداً عن ضوضاء المنزل والشارع.

الصعوبات التي واجهتها "أسيل" لتنتزع هذا الإنجاز، لا تقف عند هذا الحد، ففي عامها الدراسي الأخير (الثانوية العامة) انتقلت "أسيل" من مدرسة النور والأمل الخاصة بالمكفوفين، إلى مدرسة شادية أبو غزالة الثانوية للبنات، وقالت: "كان الأمر بالنسبة لي صعب جداً، أن أتعامل فجأة مع طالبات مختلفات عن فئتي التي اعتدت التعامل معها طيلة الـ11 سنة الماضية، فالأمر احتاج إلى جهد مضاعف". 

وأوضحت أن جميع زميلاتها في الفصل الدراسي كنّ منشغلات بالكتابة خلف المعلمة، أما هي فقد اعتمدت نظام تسجيل، وكانت تصطحب هاتفها المحمول معها إلى المدرسة بموافقة من مديرة المدرسة؛ وأحيانا تضطر لاستعارة الملخصات من زميلاتها، لتعود إلى البيت وتعيد تدوين الحصص المدرسية من جديد. 

تجلس أمها إلى جانبها وهي خلف آلة بريل وتقرأ لها ما دونته زميلتها في الكراسة، وبعدها تشرع في متابعة دروسها ومراجعتها.

وخلال الانقطاع عن المدرسة فترة الإجازة الطارئة، بسبب الإجراءات الوقائية من فيروس كورونا، عاشت "أسيل" الهواجس والمخاوف من إمكانية تأجيل الامتحانات، عوضا عن خوفها الدائم من كيفية تأدية الامتحانات، بوجود كاتبة تكتب ما تمليه عليها من إجابات، وهو نظام لم تعتد عليه طيلة السنوات السابقة.

واستدركت "أسيل" بقولها، إن مخاوف الاعتماد على كاتبة بجانبها خلال الامتحانات تبددت بفضل مجهودات مَدرستها (شادية أبو غزالة) بمديرية شمال غزة، التي عكفت على تطبيق هذا النظام في الامتحانات النهائية للفصل الدراسي الأول.

ولأنها تعيش ظروفا صحية استثنائية، لم تتمكن من الالتحاق بالدروس الخصوصية، عوضا عن ظروفها الاقتصادية الصعبة نتيجة تعطل والدها المريض عن العمل، رغم إبداء استعداده لذلك وفق رغبتها.

أما والدتها التي رافقتها طيلة رحلة معاناتها في هذه الحياة، فكانت كذلك ترافقها يوميًّا في الامتحانات وتنتظرها حتى انتهائها لتعود بها إلى البيت، وكانت قد تعلمت لغة بريل لمتابعتها في مراحلها الدراسية الأولى. 

وتحاول "أسيل" أن تتعايش مع معاناتها التي ترافقها منذ عمر الثلاثة أشهر، حين أصيبت بمرض السرطان في عينيها؛ ليجري استئصالهما وهي في سن سنة وسبعة شهور، لتظل منذ ذلك الحين في رحلة لا تنتهي مع المعاناة...

وبالرغم من كل ما سبق، إلا أن أملها في الحياة لا زال متدفقاً، ويقينها بالنجاح لا يلين، حيث قررت "أسيل" الالتحاق بالجامعة لدراسة اللغة العربية التي "تعشقها".

وأهدت "أسيل" نجاحها إلى والديها وأسرتها التي قدّمت لها الواجب رغم قلة الإمكان، متوجهة بالشكر لكل من ساندها ووقف بجانبها وعلّمها ولو حرفاً...

كما توجهت بالنصيحة للطلبة بالتسلح بالعزيمة والإرادة والإيمان؛ لتحقيق ما يصبون إليه من أمنيات وطموحات.

 فهي المادة المفضلة لها التي كانت تستمتع بدراستها، وبها ستتمكن من تطوير موهبتها في كتابة الخواطر، ونصحت الطلبة المقبلين على الثانوية العامة بالمتابعة أولًا بأول، والإصرار على النجاح بإرادة قوية.




ليست هناك تعليقات