فضل الاعتكاف في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك


الاعتكاف مشروع ، وهو قربة إلى الله جل وعلا.

فإذا ثبت هذا ، فقد جاءت أحاديث كثيرة ترغب في التقرب إلى الله تعالى بنوافل العبادات ، وهذه الأحاديث بعمومها تشمل كل عبادة ومنها الاعتكاف.


فمن هذه الأحاديث: قول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ ).


ما معنى الاعتكاف؟

الاعتكاف في الشرع: لزومُ المسجدِ من أجل التّعبّد لله تعالى، بضربٍ أو أكثرَ من ضروب العبادة المشروعة، كالذّكر وتلاوة القرآن والصلاة والتّفكّر، وهو مشروع مستحب باتفاق أهل العلم.


قال الإمام أحمد فيما رواه عنه أبو داود : ( لا أعلم عن أحد من العلماء إلا أنه مسنون ).
وقال الزهري رحمه الله : ( عجباً للمسلمين ! تركوا الاعتكاف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم، ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل ).

وهو من العبادات القديمة، يدلُّ على ذلك قوله تعالى: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } [ سورة البقرة: آية 125 ].

وقوله تعالى: { فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً } [ سورة مريم: آية 17 ].

وقوله تعالى: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً } [ سورة آل عمران: آية 37 ].

وهو سنة في جميع الأوقات، فقد روى مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اعتكف العشر الأُوَلَ من شوال، وهو سنة مؤكدة في رمضان وفي العشر الأواخر آكد، اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وطلباً لليلة القدر، يدل على ذلك فعله صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه تقرباً إلى الله وطلباً لثوابه فقد كان يعتكف في رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً؛ ولقوله: ( من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر أي من شهر رمضان )، ويدل على ذلك أيضاً اعتكاف أزواجه معه وبعده، ويرى الحنفية أن معنى سنة مؤكدة أي سنة كفاية في العشر الأواخر من رمضان فإذا قام بها بعض المسلمين سقط الطلب عن الباقين فلم يأثموا بالمواظبة على الترك بلا عذر؛ ولو كان فرض عين لأثموا بترك السنة المؤكدة إثماً دون إثم ترك الواجب.

ويصبح الاعتكاف واجباً إذا نذره المسلم على نفسه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه )، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك )، و كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام و هذا دليل على أن الاعتكاف معروف في الجاهلية و دليل أيضا على وجوبه في حال النذر.


ما هي حكمة مشروعيّة الاعتكاف؟

إن في العبادات من الأسرار والحكم الشيء الكثير، ذلك أن المدار في الأعمال على القلب، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ).

وأكثر ما يفسد القلب الملهيات والشواغل التي تصرفه عن الإقبال على الله عز وجل، يقول الإمام ابن القيّم: ( لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفاً على جمعيته على الله، ولمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإنَّ شعث القلب لا يلمُّه إلا الإقبال على الله تعالى! ).

فشرع الله تعالى قربات تحمي القلب من غائلة تلك الصوارف، كالصيام مثلاً، الصيام الذي يمنع الإنسان من الطعام والشراب، والجماع في النهار، فينعكس ذلك الامتناع عن فضول هذه الملذات على القلب، فيقوى في سيره إلى الله، وينعتق من أغلال الشهوات التي تصرف المرء عن الآخرة إلى الدنيا.

خلاصة القول، الحكمة من الاعتكاف أن فيه تسليم النفس بالكلية إلى عبادة الله طلباً للزلفى وإبعاد النفس من شغل الدنيا التي هي مانعة عمل يطلبه العبد من القربى.


الجمع بين الصوم والاعتكاف

لا يشترط وجوب صحة الاعتكاف بالصوم و إنما من باب الاستحباب، لكن لا ريب أن اجتماع أسباب تربية القلب بالإعراض عن الصوارف عن الطاعة، أدْعى للإقبال على الله تعالى والتوجه إليه بانقطاع وإخبات، ولذلك استحب السلف الجمع بين الصيام والاعتكاف.

ولم يذكر الله سبحانه وتعالى الاعتكاف إلا مع الصوم، و لا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم.

واشتراط الصوم في الاعتكاف نقل عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة، واختلف النقل في ذلك عن أحمد والشافعي. 

وأما قول الإمام ابن القيم رحمه الله : ( ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطراً قط ) ففيه بعض النظر ، فقد نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ، اعتكف في شوال ). ولم يثبت أنه كان صائماً في هذه الأيام التي اعتكافها، ولا أنه كان مفطراً.


اعتكاف رسول الله - صلى الله عليه و سلم -


مع النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه: اعتكف عليه الصلاة والسلام في العشر الأول من رمضان ثم العشر الأواسط، يلتمس ليلة القدر، ثم تبيّن له أنها في العشر الأواخر فداوم على اعتكافها. 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل معتكفه قبل غروب الشمس فإذا أراد مثلاً أن يعتكف العشر الأواسط دخل المعتكف قبل غروب الشمس من ليلة الحادي عشر، وإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل المعتكف قبل غروب الشمس من ليلة الحادي والعشرين. 

أما ما ثبت في الصحيح من أن صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ثم دخل معتكفه، فإنما المقصود أنه دخل المكان الخاص في المسجد بعد صلاة الفجر، فقد كان يعتكف في مكان مخصص لذلك، كما ورد في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف في قبة تركية.

وكان صلى الله عليه وسلم يخرج رأسه وهو معتكف في المسجد إلى عائشة - رضي الله عنها - وهي في حجرتها، فتغسله وترجله، وهي حائض، كما جاء في الصحيحين. 
وفي مسند أحمد أنه كان يتكئ على باب غرفتها، ثم يُخْرج رأسه ، فترجّله.

وفي ذلك دليل على أن إخراج المعتكف بعض جسده من المعتكف لا بأس به، كأن يخرج رجله أو رأسه. كما أن الحائض لو أدخلت يدها أو رجها مثلاً في المسجد فلا بأس ، لأن هذا لا يُعدّ دخولاً في المسجد.

ومن فوائد هذا الحديث أيضا أن المعتكف لا حرج عليه أن يتنظف، ويتطيب، ويغسل رأسه، ويسرحه، فكل هذا لا يخلّ بالاعتكاف. 

ومما وقع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اعتكافه ما راوه الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه، وإنه أمر بخبائها فضرب، وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، بخبائه فضرب، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر نظر فإذا الأخبية ، فقال : ( آلبرَّ تُردْن ؟) فأمر بخبائه فقوض ، وترك الاعتكاف في شهر رمضان ، حتى اعتكف في العشر الأول من شوال ) ).

ومعنى قوله : ( آلبرّ تردْن ؟ ) أي : هل الدافع لهذا العمل هو إرادة البر، أو الغيرة والحرص على القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ 

والأظهر والله أعلم أن اعتكاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال من تلك السنة بدأ بعد العيد، أي في الثاني من شوال. 

ويحتمل أن يكون بدأ من يوم العيد، فإن صح ذلك فهو دليل على أن الاعتكاف لا يشترط معه الصوم، لأن يوم العيد لا يصام. 

ومما وقع له صلى الله عليه وسلم في اعتكافه ما رواه الشيخان أيضا: ( أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد، في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة، مر رجلان من الأنصار، فسلّما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ( على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي ) ، فقالا : ( سبحان الله يا رسول الله ! ) وكبُرَ عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم ) وفي لفظ : ( يجري من الإنسان مجرى الدم )، ( وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً ) وفي لفظ : ( شراً ) )

فمن شدة حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، على صدق إيمان هذين الأنصاريَّيْن، وخشية أن يلقى الشيطان في قلوبهما شيئاً، فيشكَّا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون ذلك كفراً، أو يشتغلا بدفع هذه الوسوسة، بيّن صلى الله عليه وسلم الأمر، وقطع الشك، ودفع الوسواس، فأخبرهما أنها صفية - رضي الله عنها - وهي زوجته.

عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يجاور في العشر التي وسط الشهر، فإذا كان من حين تمضي عشرون ليلة، ويستقبل إحدى وعشرين، يرجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، ثم إنه أقام في شهر، جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم بما شاء الله، ثم قال : ( إني كنت أجاور هذه العشر، ثم بدالي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليبت في معتكفه، وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، في كل وتر، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين ) )

قال أبو سعيد : ( مطرنا ليلة إحدى وعشرين ، فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت إليه، وقد انصرف من صلاة الصبح، ووجهه مبتل ماء وطيناً فتحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وهذا من علامات نبوته )

ثم حافظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، على الاعتكاف في العشر الأواخر، كما في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده.

وفي العام الذي قبض فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتكف عشرين يوماً، أي العشر الأواسط والعشر الأواخر جميعاً، وذلك لعدة أسباب:

أولها: أن جبريل عارضه القرآن في تلك السنة مرتين. فناسب أن يعتكف عشرين يوماً، حتى يتمكن من معارضة القرآن كله مرتين. 

ثانيها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد مضاعفة العمل الصالح، والاستزادة من الطاعات، لإحساسه صلى الله عليه وسلم بدنو أجله كما فهم من قول الله تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً } [ سورة النصر ]. فإن الله عز وجل أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالإكثار من التسبيح والاستغفار في آخر عمره، وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم، فقد كان يكثر في ركوعه وسجوده من قول : ( سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي ) يتأول القرآن.

ثالثها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليه من الأعمال الصالحة من الجهاد والتعليم والصيام والقيام وما آتاه من الفضل من إنزال القرآن عليه ورفع ذكره وغير ذلك مما امتن الله تعالى به عليه.


ما يتميّز به الاعتكافُ في شهر رمضان!

ذهب الفقهاء إلى أنّ الاعتكاف في رمضانَ، في العشر الأواخر منه: سنّة مؤكّدة، لمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، كما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - : ( أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتّى توفّاه اللّه تعالى، ثمّ اعتكف أزواجه من بعده ).

وفي حديث أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - : ( أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عامًا حتّى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي اللّيلة الّتي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال: من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ).

وارتفاع مرتبة الاعتكاف في رمضان من أن يكون (سُنّة)، إلى أن يكون (سُنّة مؤكّدة) يرجع إلى ما يتميّز به الاعتكاف في رمضان من الميزات الواضحة، والتي نذكر منها ما يلي و بالتفصيل:

أولاً: اقترانه بالصّوم الواجب، وهو صوم الفريضة، وبالتالي يكون المعتكف أكثر قدرةً بإذن الله على تحقيق أهدافه من الاعتكاف، المتعلقة بتحقيق العبودية، ثم محاربة ما يلهي من فضول كالطعام و فضول الكلام و غيرهما. 

والبعض اشترط الصوم في غير رمضان، ولعل من الحكمة والسر أن الاعتكاف حالةٌ لإخراج العبد من ضوضاء الدنيا وشواغل النفس، إلى الإقبال على الله، ولا بد أن تكون النفس ساكنة مطمئنة، والصيام فيه كسرٌ للشهوة، وصفاء للنفس، وانقطاع عن أسباب الشهوات والمتاع، ولذا كان لابد من الاعتكاف ليحقق الصوم ثماره كلها.

ثانياً: فضّل اللّه تعالى رمضان، والعشر الأواخر منه خاصّةً بليلة القدر، التي تتميز بعديدٍ من الفضائل، ومنها ما يلي:

*- أنها ليلة أنزل الله فيها القرآن ، قال تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة القدر }.

*- أنها ليلة مباركة ، قال تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة مباركة }.

*- يكتب الله تعالى فيها الآجال والأرزاق خلال العام ، قال تعالى: { فيها يفرق كل أمر حكيم }.

*- فضل العبادة فيها عن غيرها من الليالي كبير وعظيم ، قال تعالى: { ليلة القدر خير من ألف شهر}.

*- تنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة والمغفرة ، قال تعالى: { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر }.

*- ليلة خالية من الشر والأذى وتكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبر ، وتكثر فيها السلامة من العذاب ولا يخلص الشيطان فيها إلى ما كان يخلص في غيرها فهي سلام كلها ، قال تعالى: { سلام هي حتى مطلع الفجر }.

*- فيها غفران للذنوب لمن قامها واحتسب في ذلك الأجر عند الله عز وجل ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) - متفق عليه.

بل إنّ الدافع للاعتكاف في رمضان، إنما هو: التماس ليلة القدر، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ، أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ " فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ ).

ثالثاً: اقتران الاعتكاف في رمضان بالقرآن الكريم، الذي نزل جملةً واحدةً من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، في شهر رمضان، وفي ليلة القدر منه على التّعيين، ثمّ نزل مفصّلًا بحسب الوقائع في ثلاثٍ وعشرين سنةً.

ولذا فإنه يُستحبّ في رمضان للمعتكف استحبابًا مؤكّدًا مدارسةُ القرآن وكثرةُ تلاوته، وتكون مدارسة القرآن بأن يقرأ على غيره ويقرأ غيره عليه، ودليل الاستحباب أنّ جبريل كان يلقى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في كلّ ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن.
وقراءة القرآن مستحبّة مطلقًا، ولكنّها في رمضان آكد، وهي في العشر الأواخر آكد.

رابعاً: اقترانُ الاعتكاف بقيام الليل وصلاة التراويح، وقد أجمع المسلمون على سنّيّة قيام ليالي رمضان، وقد ذكر النّوويّ أنّ المراد بقيام رمضان صلاة التّراويح، يعني أنّه يحصل المقصودُ من القيام بصلاة التّراويح.

وقد جاء في فضل قيام ليالي رمضان قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه ).

أما التهجد؛ فإنه سنة، وفيه فضلٌ عظيم، وهو قيام الليل بعد النوم، خصوصًا في ثلث الليل الآخر، أو في ثلث الليل بعد نصفه في جوف الليل؛ فهذا فيه فضل عظيم، وثواب كثير، ومن أفضل صلاة التطوع التهجد في الليل، قال تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً } [ سورة المزمل : آية 6 ]، واقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .

ولو أنَّ الإنسان صلَّى التَّراويح، وأوتر مع الإمام، ثم قام من الليل وتهجد؛ فلا مانع من ذلك، ولا يُعيد الوتر، بل يكفيه الوترُ الذي أوتره مع الإمام، ويتهجد من الليل ما يسَّر الله له، وإن أخَّر الوتر إلى آخر صلاة الليل؛ فلا بأسَ، لكن تفوته متابعةُ الإمام، والأفضل أن يُتابع الإمام وأن يوتر معه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من قام مع الإمام حتى ينصرف؛ كتب له قيام ليلة )، فيتابع الإمام، ويوتر معه، ولا يمنع هذا من أن يقوم آخر الليل ويتهجَّد ما تيسَّر له".

خامساً: مضاعفة ثواب الأعمال الصّالحة في رمضان! وذلك ممّا يُنَشِّطُ المعتكف إلى الاجتهاد في عبادته وتذلُّله لربّه، قال إبراهيمُ: ( تسبيحةٌ في رمضان خيرٌ من ألف تسبيحةٍ فيما سواه، والاعتكاف من أجلِّ الأعمال في رمضان ).


بذلك نستنتج مقاصد الاعتكاف هي: الخلوة بالله عز وجل، والانقطاع عن الناس ما أمكن حتى يتم أنسه بالله عز وجل وذكره، و إصلاح القلب ، ولم شعثه بإقبال على الله تبارك وتعالى بكليته، و الانقطاع التام إلى العبادة الصرفة من صلاة ودعاء وذكر وقراءة قرآن، و حفظ الصيام من كل ما يؤثر عليه من حظوظ النفس والشهوات، و التقلل من المباح من الأمور الدنيوية ، والزهد في كثير منها مع القدرة على التعامل معها؛ و في شهر رمضان يكون لتحري ليلة القدر و يزداد ثواب العمل و المقاصد.

ليست هناك تعليقات